قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر كلام أبي عبيد: (ذكر من الكوفيين من قال ذلك أكثر مما ذكر من غيرهم؛ لأن الإرجاء في أهل الكوفة كان أولاً فيهم أكثر، وكان أول من قاله حماد بن أبي سليمان ، فاحتاج علماؤها أن يظهروا إنكار ذلك، فكثر منهم ذلك).
يعني أنه كثر إنكار أهل الكوفة أكثر من غيرهم لأن البدعة ظهرت فيهم، وهذا شأن أئمة الإسلام الهداة المهتدين المقتدى بهم، يعالجون ما ينزل بالأمة في عصرهم، ففي الكوفة ظهر الإرجاء فتكلموا فيه، وإلا فما قيمة علماء الإسلام حين يرون البدع والضلالات والانحرافات تنتشر ثم لا ينكرون ولا يغيرون؟!
ولهذا كتب علماء الكوفة والعراق في السير، وهي التي يسمونها اليوم: المعاملات الدولية؛ لأن الحكومة كانت عندهم، وكانت تحتاج إلى أن تتعامل مع الروم ومع غيرهم، وكتبوا في الخراج؛ لأن الحكومة تحتاج إلى ذلك وهم أئمتها، كما كتب يحيى بن آدم و أبو يوسف وغيرهما، فعالجوا الأوضاع التي نشأت أو كانت تنشأ في أيامهم.
وفي المدينة كان أكثر ما يذكرون بدعة القدر، لأن القدرية جاءت فأصابت المدينة ، وكان الإمام أحمد رحمه الله يعلم الناس في المسجد كتاب الإيمان والأشربة؛ لأن الناس على مذهب أهل العراق ، فهم في الإيمان مرجئة ويستحلون النبيذ.
فانظر إلى الإمام الحقيقي، الذي يقوم بما أخذ الله تعالى عليه من الميثاق، كما قال تعالى: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ))[آل عمران:187]، فهو يعالج الواقع الموجود، فلو كان في المدينة فهل سيحدثهم عن الأشربة ولا أحد في المدينة يشرب النبيذ؟!
وقد ألف كتاباً هو كتاب الورع، وهو يشتمل على أمور من وقائع ما كان يدور حوله في العراق ؛ لأنه إنما ظهر الترف والاعتداء على الحقوق أكثر ما ظهر في الحواضر.
فالمعالجة الواقعية أن تعلم الناس ما يحتاجون إليه، فتبدأ مع الجهال فتفهمهم التوحيد، ومعنى لا إله إلا الله، أما المترفون فتعالج معهم موضوع النساء والخمر والمخدرات والأفلام والدشات.
وهذه من الحكمة ومما فضل الله به علماء أهل السنة والجماعة والحمد لله في جميع العصور، فهذا الدين دواء، وهذا الحق دواء، فلتعالج الناس من خلال الأمراض الموجودة، فأحوج ما يكون الناس إلى العقيدة، وإذا كنت في بيئة لا تحتاج إلى العقيدة إلا إجمالاً فأجمل القول فيها وفصل فيما عداها، وإذا كنت في مجتمع يحتاج إلى العقيدة تفصيلاً ففصل القول فيها وأجمل فيما سواها، وإن كنت في بيئةٍ الشرك فيها ظاهر في الإلهية. فتحدث عن توحيد الإلهية، وإن كان الشرك في الربوبية أكثر فتحدث عن توحيد الربوبية، وإن كان في الأسماء والصفات فتحدث عنه؛ لأنك تعالج الواقع، وتشخص مرض المريض، ولابد من إعطاء علاج خاص بالعضو المريض.
فالمقصود أن هناك من العلم ما يقال للعامة، ولكن من العلم ما يجب أن يعالج به الوضع الخاص بحسب الحالة المرضية التي يعاني منها المجتمع، وهذا من الفقه الذي فقهه هؤلاء الأئمة.
يقول شيخ الإسلام : كما أن أكثر من أنكر على الجهمية من أهل خراسان . فتجد الكتب المؤلفة في ذم الجهمية وضلالهم في الصفات والكلام فيهم من أهل خراسان في المشرق؛ لأن الجهم ظهر هناك، فـعبد الله بن المبارك -مثلاً- له كلام عظيم جداً في هذا، وكذلك يزيد بن هارون ، ونعيم بن حماد وإن كان استقر في مصر ، حتى إنه لما قيل لـنعيم بن حماد : نراك شديداً على الجهمية ، قال: إني كنت منهم. فكادوا أن ينشئوه تنشئة جهمية، فلذلك كان شديداً عليهم يعرف مآخذهم ويعرف خطرهم.